المدارس الفكرية للكمال الإنساني
المدارس الفكرية للكمال الإنساني
1- ما هي رؤية المدرسة العقليّة والصوفيّة للإنسان الكامل؟
2- ما هو رأي الإسلام بأصالة المعرفة العقليّة؟
3- ما هو تفسير المدرسة العقليّة للإيمان؟
4- ما هي رؤية "بيكون" للعلم و"نيتشه" للقوّة؟
5- ما هو رأي الإسلام من القوّة ومن الضعف؟
6- كيف يمكن أن يتحوّل نموّ القيمة إلى أنانيّة؟
7- ما هو رأي الإسلام من مدرسة المحبّة؟
--------------------------------------------------------------------------------
9
--------------------------------------------------------------------------------
تمهيد
هناك العديد من المدارس الفكريّة الّتي تعرّضت لفكرة "الإنسان الكامل"، كما وتعرّضت المدرسة القرآنيّة الإسلاميّة لذلك، وسنقوم بدراسة هذه المدارس جميعها عارضين في الأثناء التصوّر الإسلاميّ للإنسان الكامل.
1- المدرسة العقليّة
وهي تلحظ الإنسان من زاوية العقل باعتباره جوهر الإنسانيّة. ويرى فلاسفة هذه المدرسة ومنهم ابن سينا أنّ الإنسان الكامل هو الإنسان الحكيم.
والحكمة على نوعين:
أ- نظريّة: وهي تعني الرؤية الكلّية الّتي يحملها المرء عن الوجود ككلّ، فالإنسان الحكيم هو الّذي يعلم
--------------------------------------------------------------------------------
11
--------------------------------------------------------------------------------
مبدأ العالم ومنتهاه ومراحل تطوّره والقوانين الكليّة السائدة فيه، فيصبح عالِماً بكلّ المسائل الخارجيّة. وبتعبيرهم "صيرورة الإنسان عالَماً عقليّاً مضاهياً للعَالم العينيّ".
ب- عمليّة: تُعني تسلُّط الإنسان على قِواه وغرائزه، بحيث تكون منقادةً لحكم العقل لا حاكمةً عليه. والإنسان الكامل هو الجامع للحكمتين.
المدرسة العقليّة تحت المجهر
إنّ هذه المدرسة تعتبر العقل جوهر الإنسان وحقيقته، وأمّا القوى الروحيّة كالحبّ والشهوة والغضب فهي أدوات بيد الفكر والعقل، ويرى الفلاسفة المسلمون المتبنّون لهذه المدرسة أنّ الإيمان الّذي دعا القرآن المسلمين للتحلّي به يعني معرفة العالم معرفةً كلّية لا تفصيليّة ومعرفة مبدئه ومنتهاه والنظام الحاكم فيه.
ولقد عارضت هذه المدرسة مدارس أخرى، كالمدرسة العرفانيّة، ومدرسة أهل الحديث والأخباريّين الّتي تُنكر
--------------------------------------------------------------------------------
12
--------------------------------------------------------------------------------
هذه القيمة الكبيرة للعقل، والمدرسة الحسيّة الّتي ظهرت في العصر الحديث، والّتي ترى أنّ الحسّ هو الأساس في المعرفة الإنسانيّة، وأنّ العقل تابع له فهو كالمصنع وظيفتُه تحليل ما يرده من موادٍ خامٍ عن طريق الحواس لا أكثر.
أصالة المعرفة العقليّة
وينبغي في هذه المدرسة تسليط الضوء على موضوعٍ مهمٍّ جدّاً ومعرفة رأي الإسلام فيه، وهو "أصالة المعرفة العقليّة"، أي هل يمكن الاعتماد على المعرفة العقليّة؟ وهل العقل قادرٌ فعلاً على اكتشاف حقائق العالم والوجود؟
فالكثيرُ من المدارس تُشكّك في قدرة العقل على المعرفة والاكتشاف، ولذلك لا تمنحه منزلةً عظيمةً. أمّا الإسلام فإنّه يمنح العقل قيمةً لا يضاهيه فيها أيّ دينٍ أو مدرسةٍ أخرى، وبأدنى مقارنة بين الإسلام والمسيحيّة يظهر هذا الأمر جليّاً.
فالمسيحّية ترى للعقل حقّ التدخّل في أمورٍ كثيرةٍ، ولكن تحرّم عليه الدخول في منطقة الإيمان، وليس له أن يسأل ويجيب، ووظيفة رجال الدين صدّه عن الدخول فيها.
--------------------------------------------------------------------------------
13
--------------------------------------------------------------------------------
وأمّا في الإسلام فينعكس الأمر تماماً، بل إنّه لا يحقّ لغير العقل أن يتدخَّل في أصول الدين، فلا يصحّ من أيّ إنسان أن يعتنق التوحيد بلا دليل، أو عن طريق التقليد أو بواسطة منامٍ رآه، والمطلوب أن يكون إيمانه نتيجة التحقيق المستند إلى الدليل والبرهان.
والقرآن الكريم لا يفتأ يذكر العقل، كما أنّ أحاديث المعصومين مليئة بالكلام عن أهميّة العقل، ويكفي الرجوع إلى الباب الأوّل من كتاب أصول الكافي لملاحظة ذلك، حيث سنجد كتاب العقل المتضمّن لأحاديث كثيرة تدافع عن العقل وتبرز أهميّته ومنزلته، ونتبرّك بذكر الحديث التالي:
عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: "يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَاد ِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾1. يا هشام إنّ الله تبارك
--------------------------------------------------------------------------------
14
--------------------------------------------------------------------------------
وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونَصَر النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة...
"يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وأخرى باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام وأمّا الباطنة فالعقول..."2.
فهل يوجد تعظيم للعقل أكبر من ذلك؟!
الإسلام والمعرفة العقليّة
نعم إنّ الإسلام يرى العقل حجّةً يمكن الاعتماد عليها، وهو يتّفق بهذا المقدار مع المدرسة العقليّة، إلّا أنّه يختلف معها في جعلها إيّاه الأساس وجوهر الإنسانيّة، وفي جعلها ما سواه أداةً بيده، وفي تفسيرها للإيمان بأنّه معرفةٌ بالله ورسله وملائكته واليوم الآخر فحسب.
إنّ العقل في الإسلام جزء مهمّ من وجود الإنسانيّة، كما أنّ الإيمان أعمق بكثير من المعرفة، إنّه ميل وتسليم وخضوعٌ ومحبّة واعتقاد، ولا يكفي مجرّد العلم والمعرفة،
--------------------------------------------------------------------------------
15
--------------------------------------------------------------------------------
وإن كانت أحد أركان الإيمان إلاّ أنّها ليست كلّ الإيمان، فقد يعلم المرء بشيءٍ ولا يحبَّه ولا يميل إليه فهل يُقال إنّه مؤمن به؟!
كثيرون في الكيان الصهيونيّ مختصّون بالإسلام وبشؤون العالم العربيّ فهل يُقال بأنّهم يحبّون الإسلام ويؤمنون به؟! والواقع أنّهم ينصبون له العداء.
والنموذج الآخر هو الشيطان، فهو يعرف الله أكثر من الكثيرين، فقد عبد الله آلاف السنين، وهو يعرف ملائكته فقد كان في صفّ الملائكة كذلك. وهو يعرف رسله أيضاً ويعتقد باليوم الآخر. قال تعالى حكايةً عنه:﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾3 ولكن مع كلّ ذلك ينعته القرآن بالكفر ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾4.
.
لو كان الإيمان يعني مجرّد العلم والمعرفة لكان الشيطان جديراً بوصف الإيمان، ولكنّه لمّا كان معانداً
--------------------------------------------------------------------------------
16
--------------------------------------------------------------------------------
للحقيقة - رغم معرفته بها- غير مسلِّمٍ بها ولا يتحرّك باتجاهها كان مستحقّاً لوصف الكفر.
نقاط في سجلّ مدرسة العقل
1- إنّ العقل حجّةٌ يمكن التوصّل به للمعرفة والوثوق بها.
2- ليس العقل وحده هو جوهر الإنسان.
3- إنّ الإيمان لا يعني العلم والمعرفة فقط بل هو أكبر من ذلك.
أصالة الإيمان
ولعلّ هذه النقطة الثالثة بحاجةٍ إلى بعض التوضيح:
عندما نقول إنّ شيئاً ما أصيل يعني أنّه بحدّ ذاته مطلوبٌ وهدف، لا أنّه غايةٌ ووسيلةٌ، فجدران المنزل والسقف والنوافذ هدفٌ لصاحب العمار فهي أمورٌ أصيلةٌ، ولكن لا يُحقَّق هدفه هذا بدون قواعد للبناء، فالقواعد ليست أصيلةً لأنّها غير مطلوبةٍ لذاتها. وإذا اتضح الفرق بين الأصيل وغيره نسأل:
--------------------------------------------------------------------------------
17
--------------------------------------------------------------------------------
هل الإسلام عندما يطرح قضيّة الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، يطرحها على أساس أنّها أصيلةُ في الرؤية الإسلاميّة، أم أنّها غير أصيلةٍ ومجرّد قواعد للبناء، والغاية كلّ الغاية في العمل ليس إلّا؟
الصحيح أنّها أصيلةٌ وهي شرطٌ أساس في قبول الأعمال، ولو جرّدنا العمل عن الإيمان لم يصل إلى أيّ نتيجة لأنّه فاقد لشرطه الأساس وهو الإيمان، كما ولو جرّدنا الإيمان عن العمل لم يبق أثر للإيمان. يقول تعالى: ﴿... إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...﴾5 ويقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً6 للقلوب، تسمع به بعد الوقرة7، وتبصر به بعد العشوة8، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد
--------------------------------------------------------------------------------
18
--------------------------------------------------------------------------------
البرهة، وفي زمان الفترات9، عباد ناجاهم في فكرهم10، وكلّمهم في ذات عقولهم..."11.
نستنتج ممّا تقدَّم أنّ الإنسان الكامل في منظور الفلاسفة إنسان ناقصُ من منظور الإسلام، إنّه ليس سوى تمثال من المعرفة، إنّه يعلم كلّ شيء ولكنّه خالٍ من الإيمان, من التسليم والمحبّة.
2- المدرسة الصوفيّة
وهي تلحظ الإنسان من زاوية العشق، ومتعلّق العشق فيها هو الله تعالى، وهي ترى أنّ الإنسان في حركةٍ معنويّةٍ دائمةٍ نحو الله ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾12.
وتبدأ هذه الحركة صعوديّةً باتجاه الله لتنتهي أفقيّةً. والقول الفصل في هذه المدرسة هو للروح لا للعقل والبرهان، بل إنّ العقل أداة بيد الروح الّتي هي جوهر
--------------------------------------------------------------------------------
19
--------------------------------------------------------------------------------
الإنسانيّة، وبما أنّ الروح من عالم العشق فيقدَّم على العقل، والغاية القصوى هي الفناء في الله.
المدرسة الصوفيّة تحت المجهر
لتوضيح الرؤية الإسلاميّة من هذه المدرسة نتعرّض لخمس نقاط مهمّة:
الأولى: الإسلام يقبل القلب
إنّ الإسلام يقبل القلب ولا يحتقر العقل، إنّه يلتفت إلى الظاهر والباطن على حدٍّ سواء، وبهذا يصطدم مع المدرسة الصوفيّة الّتي تعطي جُلَّ اهتمامها للباطن دون الظاهر وللفرد دون المجتمع.
يقول تعالى:﴿مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
--------------------------------------------------------------------------------
20
--------------------------------------------------------------------------------
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم﴾13.
لاحظ الحسّ الاجتماعي الموجود عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه. إنّهم يقفون بقوّةٍ وصلابةٍ في مواجهة أعداء الحقيقة، ولكنّهم رُحَمَاءُ فيما بَيْنَهُمْ ويعطفون على بعضهم. وهذا الحسّ لا يلغي سيرهم المعنويّ نحو الله تعالى بل تراهم يكثرون السجود والركوع. ويلحّون في طلب مرضاة الله لعدم اقتناعهم بأعمالهم واتهامهم لأنفسهم على الدوام.
وهذه صفات أصحاب الإمام الحجّة باعتبارهم نماذج للمسلم الكامل "رهبانٌ في الليل ليوثٌ في النهار".
الثانية: الصوفيّة تستهين بالعقل
تستهين هذه المدرسة بالعقل، بل ويتعجّب الصوفيّة من رؤية حكيمٍ ذي مكانةٍ سامية.
يُروى أنّ الشيخ الرئيس ابن سينا التقى أحد كبار المتصوّفة "أبا سعيد أبا الخير" وقد اختليا معاً ثلاثة أيّام.
--------------------------------------------------------------------------------
21
--------------------------------------------------------------------------------
وبعد أن افترقا سُئل كلُّ واحدٍ منهما عن رأيه في الآخر. فقال ابن سينا: "إنّه يرى ما نعرفه". وقال أبو سعيد: "إنّ ما نراه نحن يصل إليه هذا الأعمى بعصاه". لاحظ مدى التحقير الّذي يكنّه الصوفيّ للعقل.
هل ينسجم الإسلام مع هذه الرؤية؟
من الواضح أنّ الإسلام لا ينسجم مع هذه الرؤية، ويكفي لملاحظة ذلك مراجعة ما تقدّم عند تقييمنا لمدرسة العقل، بل إنّ أمير المؤمنين عليه السلام والّذي يُعبَّر عنه عند رجال التصوّف شيعيّهم وسنيّهم بـ "قطب العارفين" إذا راجعنا كلماته لوجدنا أنّه لا يستهين مطلقاً بالعقل، بل نجده أحياناً فيلسوفاً يقوم بالاستدلالات العقليّة بما لا يبلغ شأوه أعظم الفلاسفة.
الثالثة: تهذيب النفس
ترى هذه المدرسة أنّ تهذيب النفس هو السبيل للوصول إلى مرحلة الإنسان الكامل. ولمزيد من التوضيح سنتحدّث عن "أنا" الإنسان الحقيقيّة وأنّها ما هي؟
--------------------------------------------------------------------------------
22
--------------------------------------------------------------------------------
ترى الفلسفة أنّ "أنا" الإنسان هي نفسه وروحه. أمّا علم النفس الحديث فيذهب إلى أعمق من ذلك، حيث يرى أنّ "أنا" تنقسم إلى قسمين: "أنا" الباطنة وهي غائبة عن حسّ الإنسان. و "أنا" الظاهرة وهي الّتي يشعر بها الإنسان.
أمّا العرفان فيتفوّق على كلا الرأيين، فيقول إنّ "أنا" الإنسان الحقيقيّة يمكن اكتشافها عند اكتشاف الله، وبتعبير آخر إنّ شهود الأنا لا يختلف عن شهود "الله". يقول تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾14..
ومن هنا فكلّما كان التفات الإنسان إلى أعماقه وتصفية باطنه تحت إشراف إنسان أكمل أكبر، كلّما كان أقدر على الوصول إلى الكمال. ونهاية الطريق عند العارف هو الوصول إلى حيث لا حجاب بين السالك وربّه: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾15،
--------------------------------------------------------------------------------
23
--------------------------------------------------------------------------------
فالعارف لا يقول إنّه سيصل إلى حيث يصبح عالَماً من الفكر بل إنّه سيصل إلى مركز العالم والوجود.
﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾16. وحينها سيصير الإنسان مظهراً تتجلّى فيه جميع أسماء الله وصفاته. وسيكون له كلّ شيء مع أنّه لا يريد شيئاً لأنّه مشغولٌ بما هو فوق كلّ شيء.
هذا هو الإنسان الكامل في العرفان فما هي وجهة نظر الإسلام؟
لا شكّ أنّ الإسلام أولى مسألة تهذيب النفس وتزكيتها أهميّةً كبرى. فبعد أن يُقسم الله تعالى أحد عشر قسَماً متوالياً يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَ﴾17.
ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"18.
--------------------------------------------------------------------------------
24
--------------------------------------------------------------------------------
والإخلاص يعني أن تكون حياة الإنسان كلّها في سبيل الله، بعيدةً عن سخطه تعالى، منزّهة عن اتباع الهوى. فإذا وِّفق الإنسان لذلك أربعين صباحاً تدفّقت ينابيع المعرفة من باطنه وجرت على لسانه وهذا هو ما يسمى بالعلم اللدنيّ.
﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْما"﴾19. ولا يشترط في تحقّق هذا العلم اللدنيّ أن يكون المرء نبيّاً فقد سمع عليّ عليه السلام ما سمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عالم الغيب والملكوت ولم يكن نبيّاً: "ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيّس من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير20.
يتبع
المدارس الفكرية للكمال الإنساني
1- ما هي رؤية المدرسة العقليّة والصوفيّة للإنسان الكامل؟
2- ما هو رأي الإسلام بأصالة المعرفة العقليّة؟
3- ما هو تفسير المدرسة العقليّة للإيمان؟
4- ما هي رؤية "بيكون" للعلم و"نيتشه" للقوّة؟
5- ما هو رأي الإسلام من القوّة ومن الضعف؟
6- كيف يمكن أن يتحوّل نموّ القيمة إلى أنانيّة؟
7- ما هو رأي الإسلام من مدرسة المحبّة؟
--------------------------------------------------------------------------------
9
--------------------------------------------------------------------------------
تمهيد
هناك العديد من المدارس الفكريّة الّتي تعرّضت لفكرة "الإنسان الكامل"، كما وتعرّضت المدرسة القرآنيّة الإسلاميّة لذلك، وسنقوم بدراسة هذه المدارس جميعها عارضين في الأثناء التصوّر الإسلاميّ للإنسان الكامل.
1- المدرسة العقليّة
وهي تلحظ الإنسان من زاوية العقل باعتباره جوهر الإنسانيّة. ويرى فلاسفة هذه المدرسة ومنهم ابن سينا أنّ الإنسان الكامل هو الإنسان الحكيم.
والحكمة على نوعين:
أ- نظريّة: وهي تعني الرؤية الكلّية الّتي يحملها المرء عن الوجود ككلّ، فالإنسان الحكيم هو الّذي يعلم
--------------------------------------------------------------------------------
11
--------------------------------------------------------------------------------
مبدأ العالم ومنتهاه ومراحل تطوّره والقوانين الكليّة السائدة فيه، فيصبح عالِماً بكلّ المسائل الخارجيّة. وبتعبيرهم "صيرورة الإنسان عالَماً عقليّاً مضاهياً للعَالم العينيّ".
ب- عمليّة: تُعني تسلُّط الإنسان على قِواه وغرائزه، بحيث تكون منقادةً لحكم العقل لا حاكمةً عليه. والإنسان الكامل هو الجامع للحكمتين.
المدرسة العقليّة تحت المجهر
إنّ هذه المدرسة تعتبر العقل جوهر الإنسان وحقيقته، وأمّا القوى الروحيّة كالحبّ والشهوة والغضب فهي أدوات بيد الفكر والعقل، ويرى الفلاسفة المسلمون المتبنّون لهذه المدرسة أنّ الإيمان الّذي دعا القرآن المسلمين للتحلّي به يعني معرفة العالم معرفةً كلّية لا تفصيليّة ومعرفة مبدئه ومنتهاه والنظام الحاكم فيه.
ولقد عارضت هذه المدرسة مدارس أخرى، كالمدرسة العرفانيّة، ومدرسة أهل الحديث والأخباريّين الّتي تُنكر
--------------------------------------------------------------------------------
12
--------------------------------------------------------------------------------
هذه القيمة الكبيرة للعقل، والمدرسة الحسيّة الّتي ظهرت في العصر الحديث، والّتي ترى أنّ الحسّ هو الأساس في المعرفة الإنسانيّة، وأنّ العقل تابع له فهو كالمصنع وظيفتُه تحليل ما يرده من موادٍ خامٍ عن طريق الحواس لا أكثر.
أصالة المعرفة العقليّة
وينبغي في هذه المدرسة تسليط الضوء على موضوعٍ مهمٍّ جدّاً ومعرفة رأي الإسلام فيه، وهو "أصالة المعرفة العقليّة"، أي هل يمكن الاعتماد على المعرفة العقليّة؟ وهل العقل قادرٌ فعلاً على اكتشاف حقائق العالم والوجود؟
فالكثيرُ من المدارس تُشكّك في قدرة العقل على المعرفة والاكتشاف، ولذلك لا تمنحه منزلةً عظيمةً. أمّا الإسلام فإنّه يمنح العقل قيمةً لا يضاهيه فيها أيّ دينٍ أو مدرسةٍ أخرى، وبأدنى مقارنة بين الإسلام والمسيحيّة يظهر هذا الأمر جليّاً.
فالمسيحّية ترى للعقل حقّ التدخّل في أمورٍ كثيرةٍ، ولكن تحرّم عليه الدخول في منطقة الإيمان، وليس له أن يسأل ويجيب، ووظيفة رجال الدين صدّه عن الدخول فيها.
--------------------------------------------------------------------------------
13
--------------------------------------------------------------------------------
وأمّا في الإسلام فينعكس الأمر تماماً، بل إنّه لا يحقّ لغير العقل أن يتدخَّل في أصول الدين، فلا يصحّ من أيّ إنسان أن يعتنق التوحيد بلا دليل، أو عن طريق التقليد أو بواسطة منامٍ رآه، والمطلوب أن يكون إيمانه نتيجة التحقيق المستند إلى الدليل والبرهان.
والقرآن الكريم لا يفتأ يذكر العقل، كما أنّ أحاديث المعصومين مليئة بالكلام عن أهميّة العقل، ويكفي الرجوع إلى الباب الأوّل من كتاب أصول الكافي لملاحظة ذلك، حيث سنجد كتاب العقل المتضمّن لأحاديث كثيرة تدافع عن العقل وتبرز أهميّته ومنزلته، ونتبرّك بذكر الحديث التالي:
عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: "يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَاد ِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾1. يا هشام إنّ الله تبارك
--------------------------------------------------------------------------------
14
--------------------------------------------------------------------------------
وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول، ونَصَر النبيّين بالبيان، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة...
"يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وأخرى باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام وأمّا الباطنة فالعقول..."2.
فهل يوجد تعظيم للعقل أكبر من ذلك؟!
الإسلام والمعرفة العقليّة
نعم إنّ الإسلام يرى العقل حجّةً يمكن الاعتماد عليها، وهو يتّفق بهذا المقدار مع المدرسة العقليّة، إلّا أنّه يختلف معها في جعلها إيّاه الأساس وجوهر الإنسانيّة، وفي جعلها ما سواه أداةً بيده، وفي تفسيرها للإيمان بأنّه معرفةٌ بالله ورسله وملائكته واليوم الآخر فحسب.
إنّ العقل في الإسلام جزء مهمّ من وجود الإنسانيّة، كما أنّ الإيمان أعمق بكثير من المعرفة، إنّه ميل وتسليم وخضوعٌ ومحبّة واعتقاد، ولا يكفي مجرّد العلم والمعرفة،
--------------------------------------------------------------------------------
15
--------------------------------------------------------------------------------
وإن كانت أحد أركان الإيمان إلاّ أنّها ليست كلّ الإيمان، فقد يعلم المرء بشيءٍ ولا يحبَّه ولا يميل إليه فهل يُقال إنّه مؤمن به؟!
كثيرون في الكيان الصهيونيّ مختصّون بالإسلام وبشؤون العالم العربيّ فهل يُقال بأنّهم يحبّون الإسلام ويؤمنون به؟! والواقع أنّهم ينصبون له العداء.
والنموذج الآخر هو الشيطان، فهو يعرف الله أكثر من الكثيرين، فقد عبد الله آلاف السنين، وهو يعرف ملائكته فقد كان في صفّ الملائكة كذلك. وهو يعرف رسله أيضاً ويعتقد باليوم الآخر. قال تعالى حكايةً عنه:﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾3 ولكن مع كلّ ذلك ينعته القرآن بالكفر ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾4.
.
لو كان الإيمان يعني مجرّد العلم والمعرفة لكان الشيطان جديراً بوصف الإيمان، ولكنّه لمّا كان معانداً
--------------------------------------------------------------------------------
16
--------------------------------------------------------------------------------
للحقيقة - رغم معرفته بها- غير مسلِّمٍ بها ولا يتحرّك باتجاهها كان مستحقّاً لوصف الكفر.
نقاط في سجلّ مدرسة العقل
1- إنّ العقل حجّةٌ يمكن التوصّل به للمعرفة والوثوق بها.
2- ليس العقل وحده هو جوهر الإنسان.
3- إنّ الإيمان لا يعني العلم والمعرفة فقط بل هو أكبر من ذلك.
أصالة الإيمان
ولعلّ هذه النقطة الثالثة بحاجةٍ إلى بعض التوضيح:
عندما نقول إنّ شيئاً ما أصيل يعني أنّه بحدّ ذاته مطلوبٌ وهدف، لا أنّه غايةٌ ووسيلةٌ، فجدران المنزل والسقف والنوافذ هدفٌ لصاحب العمار فهي أمورٌ أصيلةٌ، ولكن لا يُحقَّق هدفه هذا بدون قواعد للبناء، فالقواعد ليست أصيلةً لأنّها غير مطلوبةٍ لذاتها. وإذا اتضح الفرق بين الأصيل وغيره نسأل:
--------------------------------------------------------------------------------
17
--------------------------------------------------------------------------------
هل الإسلام عندما يطرح قضيّة الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، يطرحها على أساس أنّها أصيلةُ في الرؤية الإسلاميّة، أم أنّها غير أصيلةٍ ومجرّد قواعد للبناء، والغاية كلّ الغاية في العمل ليس إلّا؟
الصحيح أنّها أصيلةٌ وهي شرطٌ أساس في قبول الأعمال، ولو جرّدنا العمل عن الإيمان لم يصل إلى أيّ نتيجة لأنّه فاقد لشرطه الأساس وهو الإيمان، كما ولو جرّدنا الإيمان عن العمل لم يبق أثر للإيمان. يقول تعالى: ﴿... إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...﴾5 ويقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً6 للقلوب، تسمع به بعد الوقرة7، وتبصر به بعد العشوة8، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد
--------------------------------------------------------------------------------
18
--------------------------------------------------------------------------------
البرهة، وفي زمان الفترات9، عباد ناجاهم في فكرهم10، وكلّمهم في ذات عقولهم..."11.
نستنتج ممّا تقدَّم أنّ الإنسان الكامل في منظور الفلاسفة إنسان ناقصُ من منظور الإسلام، إنّه ليس سوى تمثال من المعرفة، إنّه يعلم كلّ شيء ولكنّه خالٍ من الإيمان, من التسليم والمحبّة.
2- المدرسة الصوفيّة
وهي تلحظ الإنسان من زاوية العشق، ومتعلّق العشق فيها هو الله تعالى، وهي ترى أنّ الإنسان في حركةٍ معنويّةٍ دائمةٍ نحو الله ﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾12.
وتبدأ هذه الحركة صعوديّةً باتجاه الله لتنتهي أفقيّةً. والقول الفصل في هذه المدرسة هو للروح لا للعقل والبرهان، بل إنّ العقل أداة بيد الروح الّتي هي جوهر
--------------------------------------------------------------------------------
19
--------------------------------------------------------------------------------
الإنسانيّة، وبما أنّ الروح من عالم العشق فيقدَّم على العقل، والغاية القصوى هي الفناء في الله.
المدرسة الصوفيّة تحت المجهر
لتوضيح الرؤية الإسلاميّة من هذه المدرسة نتعرّض لخمس نقاط مهمّة:
الأولى: الإسلام يقبل القلب
إنّ الإسلام يقبل القلب ولا يحتقر العقل، إنّه يلتفت إلى الظاهر والباطن على حدٍّ سواء، وبهذا يصطدم مع المدرسة الصوفيّة الّتي تعطي جُلَّ اهتمامها للباطن دون الظاهر وللفرد دون المجتمع.
يقول تعالى:﴿مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
--------------------------------------------------------------------------------
20
--------------------------------------------------------------------------------
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم﴾13.
لاحظ الحسّ الاجتماعي الموجود عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه. إنّهم يقفون بقوّةٍ وصلابةٍ في مواجهة أعداء الحقيقة، ولكنّهم رُحَمَاءُ فيما بَيْنَهُمْ ويعطفون على بعضهم. وهذا الحسّ لا يلغي سيرهم المعنويّ نحو الله تعالى بل تراهم يكثرون السجود والركوع. ويلحّون في طلب مرضاة الله لعدم اقتناعهم بأعمالهم واتهامهم لأنفسهم على الدوام.
وهذه صفات أصحاب الإمام الحجّة باعتبارهم نماذج للمسلم الكامل "رهبانٌ في الليل ليوثٌ في النهار".
الثانية: الصوفيّة تستهين بالعقل
تستهين هذه المدرسة بالعقل، بل ويتعجّب الصوفيّة من رؤية حكيمٍ ذي مكانةٍ سامية.
يُروى أنّ الشيخ الرئيس ابن سينا التقى أحد كبار المتصوّفة "أبا سعيد أبا الخير" وقد اختليا معاً ثلاثة أيّام.
--------------------------------------------------------------------------------
21
--------------------------------------------------------------------------------
وبعد أن افترقا سُئل كلُّ واحدٍ منهما عن رأيه في الآخر. فقال ابن سينا: "إنّه يرى ما نعرفه". وقال أبو سعيد: "إنّ ما نراه نحن يصل إليه هذا الأعمى بعصاه". لاحظ مدى التحقير الّذي يكنّه الصوفيّ للعقل.
هل ينسجم الإسلام مع هذه الرؤية؟
من الواضح أنّ الإسلام لا ينسجم مع هذه الرؤية، ويكفي لملاحظة ذلك مراجعة ما تقدّم عند تقييمنا لمدرسة العقل، بل إنّ أمير المؤمنين عليه السلام والّذي يُعبَّر عنه عند رجال التصوّف شيعيّهم وسنيّهم بـ "قطب العارفين" إذا راجعنا كلماته لوجدنا أنّه لا يستهين مطلقاً بالعقل، بل نجده أحياناً فيلسوفاً يقوم بالاستدلالات العقليّة بما لا يبلغ شأوه أعظم الفلاسفة.
الثالثة: تهذيب النفس
ترى هذه المدرسة أنّ تهذيب النفس هو السبيل للوصول إلى مرحلة الإنسان الكامل. ولمزيد من التوضيح سنتحدّث عن "أنا" الإنسان الحقيقيّة وأنّها ما هي؟
--------------------------------------------------------------------------------
22
--------------------------------------------------------------------------------
ترى الفلسفة أنّ "أنا" الإنسان هي نفسه وروحه. أمّا علم النفس الحديث فيذهب إلى أعمق من ذلك، حيث يرى أنّ "أنا" تنقسم إلى قسمين: "أنا" الباطنة وهي غائبة عن حسّ الإنسان. و "أنا" الظاهرة وهي الّتي يشعر بها الإنسان.
أمّا العرفان فيتفوّق على كلا الرأيين، فيقول إنّ "أنا" الإنسان الحقيقيّة يمكن اكتشافها عند اكتشاف الله، وبتعبير آخر إنّ شهود الأنا لا يختلف عن شهود "الله". يقول تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾14..
ومن هنا فكلّما كان التفات الإنسان إلى أعماقه وتصفية باطنه تحت إشراف إنسان أكمل أكبر، كلّما كان أقدر على الوصول إلى الكمال. ونهاية الطريق عند العارف هو الوصول إلى حيث لا حجاب بين السالك وربّه: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾15،
--------------------------------------------------------------------------------
23
--------------------------------------------------------------------------------
فالعارف لا يقول إنّه سيصل إلى حيث يصبح عالَماً من الفكر بل إنّه سيصل إلى مركز العالم والوجود.
﴿يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾16. وحينها سيصير الإنسان مظهراً تتجلّى فيه جميع أسماء الله وصفاته. وسيكون له كلّ شيء مع أنّه لا يريد شيئاً لأنّه مشغولٌ بما هو فوق كلّ شيء.
هذا هو الإنسان الكامل في العرفان فما هي وجهة نظر الإسلام؟
لا شكّ أنّ الإسلام أولى مسألة تهذيب النفس وتزكيتها أهميّةً كبرى. فبعد أن يُقسم الله تعالى أحد عشر قسَماً متوالياً يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَ﴾17.
ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"18.
--------------------------------------------------------------------------------
24
--------------------------------------------------------------------------------
والإخلاص يعني أن تكون حياة الإنسان كلّها في سبيل الله، بعيدةً عن سخطه تعالى، منزّهة عن اتباع الهوى. فإذا وِّفق الإنسان لذلك أربعين صباحاً تدفّقت ينابيع المعرفة من باطنه وجرت على لسانه وهذا هو ما يسمى بالعلم اللدنيّ.
﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْما"﴾19. ولا يشترط في تحقّق هذا العلم اللدنيّ أن يكون المرء نبيّاً فقد سمع عليّ عليه السلام ما سمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عالم الغيب والملكوت ولم يكن نبيّاً: "ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيّس من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير20.
يتبع
تعليق